الأزمة الاقتصادية العالمية والاقتصاد المصري
تتحدث أجهزة الإعلام والصحافة الحكومية ليل نهار حول صحة الاقتصاد المصري وإنجازاته العظيمة ونموه غير المسبوق. فالحكومة تزعم أن معدل نمو إجمالي الناتج المحلي المصري وصل إلى أكثر من 5% عام 1998، وأنه سيتخطى 7% في عام 1999 (61)، وأن هذه المعدلات العالية للنمو ستستمر في بدايات القرن الجديد، بل ستصل إلى قمم أعلى. وتضع الحكومة كل خططها الاقتصادية على أساس هذه التوقعات المتفائلة، فمشروع توشكى، ومشروع شرق العوينات، ومشروع خليج السويس وغيرها من الخطط الطموحة لن تكون ممكنة إلا في ظل نمو غير مسبوق للاقتصاد المصري.
ويعتمد التفاؤل الحكومي على توقعين أساسيين. الأول هو أن الاستثمارات الأجنبية والمحلية ستستمر في التدفق لشراء القطاع العام والاستثمار في البورصة وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية، ويستند هذا التوقع على تطورات النصف الأول من التسعينات والتي شهدت أكبر تدفق للاستثمارات إلى ما يسمى بالأسواق الناشئة، أي البلدان حديثة التصنيع. وخبرة النصف الأول من التسعينات كانت تشير إلى أنه كلما تبنت الحكومات سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة كلما تدفقت عليها الاستثمارات.
وبالفعل، فحتى عام 1997-1998 كانت الاستثمارات الأجنبية تزداد بسرعة في السوق المصري، سواء في مجال شراء أسهم شركات القطاع العام أو في مجال المشاريع الصناعية، فقد ارتفع إجمالي الاستثمارات الأجنبية في مصر من حوالي 600 مليون جنيه في عام 1994، إلى حوالي 5 مليار جنيه مصري عام 1997. (62) وتظل توقعات الحكومة مركزة في استمرار بل وتزايد هذه التدفقات.
والتوقع الآخر هو الزيادة في قدرة الاقتصاد المصري على التصدير، فالمشاريع الزراعية العملاقة والمشاريع الصناعية الخاصة ستلعب في خطة الحكومة دورا رائدا في مضاعفة قيمة الصادرات المصرية. ويعتمد التوقعان (زيادة الاستثمارات وزيادة الصادرات) على خبرة بلدان جنوب شرق آسيا خلال التسعينات، وعلى تصور استمرار انتعاش وتوسع السوق العالمي.
ولكن هذه التوقعات تصطدم بالأزمة العنيفة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، وخاصة الأسواق الناشئة فيه. إن فهم ما يحدث في الاقتصاد العالمي اليوم يجعل توقعات وتصريحات الحكومة أقرب إلى الكوميديا أو الخيال العلمي منها إلى الواقع. فالحكومة تتحدث وكأن الاقتصاد المصري جزء من اقتصاد كوكبي آخر غير الأرض، ففي حين تنهار بلد تلو الأخرى في دوامة الأزمة والركود تتوقع الحكومة المصرية أن تظل وحدها في حالة انتعاش ونمو. لنلقي نظرة على ما يحدث في الاقتصاد العالمي وتأثيرات ذلك على الاقتصاد المصري في الفترة القادمة.
تتطور الأزمة الاقتصادية العالمية بسرعة مذهلة منذ نهاية 1997، وتهدد بكوارث أعنف كثيرا من أكثر التنبؤات تشاؤما. وتشير التقديرات الحالية إلى أن حوالي 50% من بلدان العالم في حالة ركود عنيف وانكماش اقتصادي. وإذا استمر الوضع كما هو عليه في اليابان وجنوب شرق آسيا وروسيا والبرازيل، وإذا انضم الاقتصاد الأمريكي إلى نادي الركود سيؤدي ذلك إلى انخفاض الناتج العالمي الإجمالي في عام 1999-2000 لأول مرة منذ 60 عاما (63)، وقد أصبحت التحليلات الاقتصادية لهذه الأسباب تتحدث عن إمكانية حدوث كساد عالمي كبير، ربما يكون أشد عنفا من الكساد الكبير في الثلاثينات.
وإذا نظرنا إلى الاقتصاد الياباني، وهو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، نجده يدخل في مرحلة خطيرة من الأزمة، فقد انكمش الاقتصاد الياباني بنسبة 3.3% من إجمالي الناتج المحلي في عام 1998 مما يؤدي إلى عواقب مدمرة على الصناعة اليابانية، فشركة تاو للحديد والصلب مثلا وهي من أكبر ثلاث شركات حديد في العالم أعلنت في نهاية 1998 أنها على وشك الإفلاس، مما يشكل أكبر فشل لشركة صناعية يابانية منذ الحرب العالمية الثانية. وقد كانت التوقعات في بداية 1998 تشير إلى أن الركود سيكون مركزا في القطاع المالي والتجاري ولكنه الآن انتشر سريعا إلى القطاع الصناعي وقد وصل معدل البطالة في اليابان إلى 4.5% حسب تقدير الحكومة اليابانية، ولكن هذه النسبة تصل إلى 10% إذا ما تم تحديدها بنفس المعايير الأوروبية والأمريكية. (64) مثل آخر على سرعة تطور الأزمة هو ما يحدث لشركة هيتاشي العملاقة، فقد حققت هذه الشركة 3.48 مليار ين من الأرباح في 1997، في حين حققت نفس الشركة في عام 1998 خسائر تقدر بـ 250 مليار ين، مما يعني إغلاق عشرات المصانع في اليابان ومئات المصانع في جنوب شرق آسيا. (65)
وتهدد الأزمة التي اجتاحت جنوب شرق آسيا وأدت إلى انهيار اقتصادات إندونيسيا وتايلاند وماليزيا بإغراق الصين. فهناك ضغط شديد الآن على الحكومة الصينية لتخفيض قيمة العملة (الرينمنبي) بالنسبة للدولار. والمشكلة بالنسبة للحكومة الصينية هي أنه إذا لم تخفض قيمة العملة ستصبح صادرات الصين أغلى من صادرات الدول التي تم فيها تخفيض قيمة العملة إلى أقل من النصف مما يهدد بأزمة فائض إنتاج عميقة في الصين وبالتالي إلى ركود شديد. أما إذا تم تخفيض قيمة العملة ستكون النتيجة هروب واسع النطاق وسريع لرأس المال الأجنبي، وأيضا قطاعات من رأس المال الصيني خاصة التجاري والمالي، مما يهدد بانهيار اقتصادي شبيه بالذي حدث في تايلاند وإندونيسيا. (66)
ولكن ماذا عن الاقتصاد الأمريكي وهو أكبر وأهم اقتصاد في العالم؟ لم تعد الطبقة الحاكمة الأمريكية تؤمن بإمكانية تجنب الأزمة العالمية، وقد أعلن آلان جرينبان، رئيس البنك المركزي الأمريكي، في سبتمبر 1998 أن أمريكا لن يمكنها أن تبقى واحة رخاء في عالم يعاني من ضغوط شديدة ومتزايدة. وأكثر ما يهدد الاقتصاد الأمريكي الآن هو التطورات في أسواق المال في أمريكا اللاتينية، فمع نهاية 1998 انخفضت البورصات في أمريكا اللاتينية بنسبة 60%، وقد أثرت هذه التطورات بشكل مباشر في الاقتصاد الأمريكي، فأكثر من 40% من الصادرات الأمريكية تذهب إلى أمريكا اللاتينية، والبنوك الأمريكية الكبرى أكثر ارتباطا بهذه المنطقة من ارتباطها بأسواق آسيا. (67)
ولكن الشيء الذي يخيف الطبقة الحاكمة الأمريكية هو التطورات في البرازيل، فالبرازيل هي أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وهي مسئولة عن 45% من الناتج الإجمالي للقارة، وقد اضطرت الحكومة البرازيلية لتخفيض قيمة عملتها مما أدى إلى هروب واسع لرأس المال وانهيار العملة إلى أقل من ثلثي قيمتها، وقد رفعت الحكومة معدل الفائدة إلى 50% في محاولة منها لإنقاذ العملة من المزيد من الانهيار، ولكن هذا الإجراء نفسه أدى إلى تضخيم العجز في الموازنة والذي وصل إلى أكثر من 20% من إجمالي الناتج المحلي، والوسيلة الوحيدة لتخفيض العجز والتي بدأت الحكومة في إتباعها هي تخفيض عنيف للإنفاق الاجتماعي ضاعف معدل البطالة وبدأت تخلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
لقد بدأت دوامة الأزمة العالمية مع انهيار عملة البات التايلاندية في صيف 1997، ولكن في ذلك الحين لم يكن أحد من المحللين البرجوازيين يتوقع تطور الأزمة بالسرعة والشمول اللذين رأيناهما خلال عام 1998، فالكل كان يكتب عن أزمة مالية مؤقتة سيتم تجاوزها خلال عدة أشهر ويتم بعدها العودة إلى النمو السريع. إن التحليل الماركسي وحده هو القادر على الفهم المعمق للأزمة وطبيعتها، وبالتالي هو القادر على التنبؤ بتطوراتها، فانفجار الأزمة في آسيا وانتشارها عالميا يمكن فهمه من خلال دورة الركود والانتعاش التي كتب عنها ماركس ومشكلات فائض الإنتاج التي تخلقها هذه الدورة.
كان اقتصاد جنوب شرق آسيا واليابان قد شهد نموا إنتاجيا سريعا في العقود الثلاثة الماضية، وقد أدى هذا النمو إلى تحولات واسعة النطاق، فقد أصبحت بلدان مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة مراكز صناعية رأسمالية متطورة، وقد ميز تطور الرأسمالية الصناعية في هذه البلدان اعتمادها الشديد على النمو التصديري، فاستطاعت أن تخلق لنفسها مكانا في السوق العالمي وأن تتحرك سريعا من الصناعات الأولية مثل النسيج والملابس إلى صناعات الحديد والصلب والسفن والإليكترونات والسيارات. ولكن هذا النمو اعتمد كليا على وجود سوق عالمي قادر على استيعاب هذه السلع المتزايدة، وهذا يعني أن أي انكماش لهذا السوق يؤدي إلى أزمة فائض إنتاج. وقد ظهرت بوادر هذا الانكماش في مارس 1997 في كوريا الجنوبية عندما أفلست شركة هانبو العملاقة للحديد والصلب وشركة كيا للسيارات. وكلما تفاقمت أزمة فائض الإنتاج كلما اضطر الرأسماليون لتخفيض أسعار السلع، وقد انخفض مثلا سعر المكونات الإليكترونية بنسبة 80% خلال عام 1998.
كان التوسع الاقتصادي في اليابان شديد الاعتماد على قروض ضخمة من البنوك، وعندما أدى فائض الإنتاج إلى انهيار الأرباح لم تعد الشركات قادرة على دفع ديونها مما أدى إلى بداية سلسلة الانهيار المالي ومنه إلى أزمة اقتصادية معممة. وقد أدت الأزمة اليابانية وانهيار اقتصاد شرق آسيا إلى خفض الطلب على المواد الخام الأساسية وأهمها البترول الذي انهارت أسعاره سريعا رغم محاولات الأوبك لإنقاذها. وأدى انهيار أسعار البترول إلى تعميق الأزمة في روسيا، وفي بلدان أمريكا الجنوبية المعتمدة على تصدير البترول.
إن العوامل الأساسية التي تعمق الأزمة العالمية الحالية هي أن النظام المالي أصبح عالميا، وحرية الحركة لرأس المال المالي أصبحت أحد أهم سماته، وهذا يعني أن تحريك الاستثمارات المالية من المناطق منخفضة الربحية إلى المناطق مرتفعة الربحية يحدث بشكل سريع ولا يمكن التحكم فيه، وقد شهدنا الهروب السريع وغير المسبوق لرأس المال المالي من أسواق جنوب شرق آسيا المنهارة إلى أسواق أوروبا وأمريكا الأقل تأزما خلال 1998.
وإذا نظرنا إلى الأزمة الحالية بشكل تاريخي سنجد أن هناك ميل لانخفاض معدل الربح منذ أوائل السبعينات، وقد أدى هذا إلى فترات انتعاش قصيرة جدا وضعيفة يعقبها فترات ركود عنيفة، وفشل الرأسمالية في رفع معدلات الربح بشكل كافي يعني تكرار لفترات الركود العنيفة. ونحن الآن في بدايات رابع ركود عالمي منذ بداية السبعينات (73/74، 81/82، 91/92) وكل المؤشرات توضح أنه سيكون أعنف ركود، وهناك احتمالات تحوله إلى كساد عظيم مثل الذي شهده النظام العالمي في الثلاثينات.
وإذا عدنا إلى الاقتصاد المصري فنجد النظام يدعي أنه استطاع بسياساته الحكيمة أن يجنب الاقتصاد المصري الدخول في الأزمة، والنظام يعتمد في زعمه على أن معدل النمو للاقتصاد المصري ما زال بالإيجاب (بين 3% و 5%) ومعدل التضخم لم يزد عن 5% في السنوات الثلاث الماضية، ولم يضطر النظام حتى الآن إلى تخفيض قيمة الجنيه، وهذه كلها حقائق ولكنها حقائق تشير ليس إلى عبقرية سياسات النظام ولكن إلى كون النظام قد فشل في الفترة السابقة في الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتحويل مصر إلى بلد صناعية مصدرة. فإذا قلنا أن الأزمة في بلدان جنوب شرق آسيا هي أزمة فائض إنتاج فهذا الفائض هو نتيجة النمو السريع السابق لصناعة وصادرات هذه البلدان. ولكن نحن والحمد لله لم يحدث لدينا أي نوع من النمو في الصادرات (نسبة الصادرات المصرية من إجمالي التجارة العالمية انخفض من 0.27% إلى 0.1% ما بين 1970 و1997). (68) وبالتالي فلم يشكل انكماش الطلب في السوق العالمي أي ضغط يذكر على الاقتصاد المصري.
ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الاقتصاد المصري، كما يزعم النظام، سيظل خارج نطاق الأزمة بل على العكس من ذلك، فسوف تكون آثار الأزمة العالمية شديدة العنف على الاقتصاد المصري في الحقبة القادمة، وهذا لعدة أسباب:
أولاً: إن كل خطط النظام في الاستثمار معتمدة على دخول مكثف للاستثمارات الأجنبية إلى الاقتصاد المصري سواء في الأسواق المالية أو في المشاريع الكبرى، ولكن هناك اليوم هروب واسع النطاق من كل الأسواق الناشئة والسوق المصري لن يكون الاستثناء.
ثانياً: إن استمرار انخفاض سعر البترول يشكل كارثة بالنسبة للاقتصاد المصري، فهناك ثلاثة مصادر أساسية للعملة الأجنبية تعتمد عليها الدولة، الأول هو تصدير البترول (60% من الصادرات)، والثاني رسوم قناة السويس، والثالث هو عائدات المصريين العاملين في الخليج، وهذه المصادر الثلاث معتمدة بالطبع على اقتصاد البترول، وانخفاض سعر البترول يعني تقليصا لهذه المصادر الثلاثة.
ثالثاً: يشكل هذا التقليص بدوره ضغطا مضاعفا على الحكومة المصرية لتخفيض قيمة الجنيه، فالبنك المركزي يحافظ على قيمة الجنيه بالنسبة للدولار من خلال احتفاظه بمخزون ضخم من الدولارات واستخدام هذا المخزون لشراء الجنيهات المصرية لإبقائها عند نفس قيمتها بالنسبة للدولار.
رابعاً: على الرغم من صغر حجم الصادرات المصرية، خاصة الصناعية منها، فالحكومة معتمدة على خطة تحويل الاقتصاد المصري نحو التصدير كحل وحيد لتنشيط الرأسمالية الصناعية في مصر. فالسوق المحلي محدود للغاية وينكمش سريعا بسبب سياسات التكيف الهيكلي، ولكن فرص زيادة التصدير أصبحت معدومة في الفترة القادمة، ليس فقط لأن السوق العالمي ينكمش ولكن أيضا لأن دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية اضطرت لتخفيض قيمة عملاتها لأقل من النصف في كثير من الحالات، وبالتالي أصبحت سلعها أرخص كثيرا مما كانت عليه من قبل، فكيف يمكن للسلع المصرية أن تكون منافسة اليوم وهي لم تكن قادرة على ذلك حتى بالأسعار القديمة؟!
خامساً: إن كل المشروعات العملاقة التي تقوم بها الدولة اليوم من موانئ في خليج السويس إلى مشاريع صناعية وزراعية ضخمة في توشكى، ومشروعات سياحية واسعة النطاق في سيناء والساحل الشمالي، كل هذه المشروعات تعتمد تماما على توقعات نمو طويل المدى في الاقتصاد المصري والعالمي، فالموانئ تعتمد على زيادة في التجارة العالمية (خاصة بين جنوب شرق آسيا وأوروبا) وهو ما ينخفض بشكل غير مسبوق اليوم. والمشروعات الزراعية تعتمد على زيادة الطلب العالمي على منتجاتها ونفس الشيء بالنسبة للسياحة. إن الاندماج في الاقتصاد العالمي وهو في لحظة كساد سيعني تحول كل هذه المشروعات إلى مدن أشباح، وسيعني أيضا انهيار البنوك التي قامت بتمويلها.
سادساً: هناك انهيار عام في أسعار السلع الأساسية عالميا، وهذا يشمل البترول والمنتجات الزراعية والمعادن التي انخفضت أسعارها بنسب تتراوح بين 50 و 70% خلال التسعينات. (69) وهذا التطور يحدث في نفس الوقت الذي تقوم فيه الحكومة بتحرير أسعار المنتجات الزراعية. أي أن الحكومة تترك الفلاح حرا أمام السوق العالمي المنهار، وهذا لن يعني إلا الجوع لقطاعات واسعة من الفلاحين الفقراء في الفترة القادمة.
إن مدى تأثير هذه العوامل سيعتمد بالطبع على مدى العمق الذي ستصل إليه أزمة الاقتصاد العالمي ، ولكن في كل الحالات ستحاول الرأسمالية إجبار جماهير العمال والفلاحين على دفع ثمن الأزمة. إن التحولات الاقتصادية سيكون لها تأثيرات ضخمة على الصراع الطبقي عالميا ومحليا، سنحاول في الجزء المتبقي من هذا المقال رصد أهم تطورات الصراع الطبقي وطبيعة مرحلته الحالية عالميا ومحليا.
التحولات الاقتصادية والصراع الطبقي
إن مصر ليست معزولة عن النظام الرأسمالي العالمي، بل هي جزء لا يتجزأ من هذا النظام، ولا يمكن فهم تحول مصر من نظام رأسمالية الدولة إلى نظام السوق الحر إلا بفهم التحولات الجارية في النظام العالمي، وكذا لا يمكن فهم ما حدث من تغييرات ويحدث من تغييرات في الصراع الطبقي في مصر إلا من خلال وضع هذه التغييرات في سياقها العالمي.
كانت الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الستينات فترة ازدهار نظام رأسمالية الدولة على النطاق العالمي، وقد أدى هذا الازدهار إلى حالة هدوء نسبي في الصراع الطبقي عالميا، فقد سمحت معدلات النمو الاقتصادي وسيطرة وتدخل الدولة في الشرق والغرب، وحتى في رأسماليات الدول حديثة التحرر من الاستعمار، بهيمنة غير مسبوقة للأحزاب الإصلاحية على الحركات العمالية.
في الغرب كانت الهيمنة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، وفي الشرق لم تكن الهيمنة للستالينية فقط من خلال القمع العنيف بل أيضا من خلال تحسين ملموس ومستمر في مستوى معيشة قطاع كبير من العمال. وقد كانت هناك استثناءات هامة لهذه الهيمنة في الانفجارات العمالية في بولندا وألمانيا الشرقية 1953، وفي الثورة المجرية 1956، ولكن الستالينية استطاعت أن تقمع هذه المحاولات دون تحولها إلى موجات ثورية تهدد الطبقة الحاكمة في روسيا.
أما في بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، والبلدان حديثة التحرر من الاستعمار، كانت الهيمنة للحركات الوطنية البرجوازية الصغيرة بأطروحاتها الإصلاحية على الحركة العمالية، وكانت الهيمنة ذات طابع متشابه بين البلدان المختلفة رغم تنويعاتها على المستوى الشكلي (الماوية، الناصرية، الاشتراكية الإفريقية، الخ).
بدأ الانتعاش الاقتصادي العالمي والذي كان أساس قدرة الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الإصلاحية على الهيمنة على الحركات العمالية، في الانحسار مع نهاية الستينات، وظهرت شروخ واضحة في سيطرة الأحزاب الإصلاحية ونشأت في الغرب حركات طلابية راديكالية خارج نطاق الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، وشهدت فرنسا في مايو 1968 أكبر إضراب عام في التاريخ، حيث أضرب أكثر من 12 مليون عامل، والجدير بالذكر أن العام السابق للإضراب كان عاما بلا أي أحداث عمالية تذكر .
وتصاعد الصراع الطبقي مع بداية السبعينات حيث دخل الاقتصاد العالمي أعنف أزمة له منذ الثلاثينات، وتطورت موجات الإضرابات العمالية إلى تحركات عمالية واسعة النطاق. ونمت معها تنظيمات يسارية راديكالية على يسار الأحزاب الستالينية، وبدا الأمر وكأن الثورة على الأبواب، فكل شهر يشهد إضرابات ومظاهرات أكبر وأكثر تأثيراً، مثل احتلال المصانع في تورينو وميلانو، وإسقاط عمال المناجم للحكومة في بريطانيا، والإطاحة بالديكتاتورية الحاكمة في البرتغال، وإقامة سلطة مزدوجة تهدد بالفعل بالتحول إلى ثورة عمالية، ومثل انهيار الأنظمة الديكتاتورية في اليونان وأسبانيا تحت ضغط الحركة الجماهيرية.
ولم تكن بلدان أوروبا الشرقية والعالم الثالث خارج نطاق المد في الصراع الطبقي، حيث انتشرت المظاهرات والإضرابات. ولعل أهم أحداث الشرق كانت انتفاضة براج 1968 والتي لم يستطع قمعها إلا الدبابات الروسية، وفي المكسيك قامت مظاهرات لم يشهد مثلها منذ الثورة المكسيكية، وفي تشيلي تصاعدت الحركة العمالية وأتت بالحزب الاشتراكي للسلطة بزعامة سلفادور الليندي.
ولكن الصعود الذي شهده الصراع الطبقي عالميا لم يؤد في نهاية الأمر إلى ثورات عمالية ناجحة، واستطاعت الرأسمالية أن تعيد الاستقرار إلى غالبية المراكز الرئيسية للتراكم الرأسمالي رغم استمرار الأزمة. وقد تمكنت الرأسمالية من ذلك من خلال مساعدة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، فهذه الأحزاب تمكنت من تجاوز صدمة الحركات الاحتجاجية العفوية واستيعاب الحركات العمالية التي كانت قد بدأت في الاستقلال عنها، هذا الاستيعاب تم من خلال تغيير الشعارات والتكتيكات قصيرة المدى في اتجاه يساري. وقد نجحت عملية الاستيعاب الإصلاحي للصعود العمالي بسبب الضعف النسبي لليسار الثوري، فعلى الرغم من ظهور ونمو العديد من المنظمات الثورية في تلك الفترة ظلت هذه المنظمات صغيرة وقليلة الخبرة مقارنة بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية ذات التراث الطويل ومئات الآلاف من الأعضاء والجذور القوية في النقابات العمالية، وبالتالي فلم تستطع المنظمات الثورية أن تقدم بديلا حقيقيا أمام الحركة العمالية الصاعدة.
ومع انحسار المد في نهاية السبعينات بدأ اليمين في هجومه المضاد على الطبقات العاملة - ريجان في أمريكا، وتاتشر في بريطانيا، وأحزاب المسيحيين الديمقراطيين في ألمانيا وإيطاليا. واستطاع اليمين بمساعدة الاشتراكية الديمقراطية والستالينية انتزاع عدد من المكاسب التي كانت الحركة العمالية قد حصلت عليها. ولكن اليمين لم يستطع في هجمة الثمانينات في أوروبا وأمريكا أن يدمر الحركة العمالية كما كان يهدف، ولم يستطع أيضا أن يخفض الأجور بشكل حقيقي، ففي بريطانيا مثلا لم تنخفض الأجور الحقيقية طوال فترة حكم المحافظين.
وشملت إعادة الاستقرار الرأسمالي وهيمنة اليمين على بلدان العالم الثالث، ففي المكسيك استطاع الحزب القومي الحاكم إعادة سيطرته بعد الانفجارات الطلابية والعمالية الكبرى فيما بين 1968 ومنتصف السبعينات، في تشيلي قضى انقلاب بينوشيه على اليسار والحركة العمالية في 1973، تلك الحركة التي ظلت في حالة تصاعد منذ أواخر الستينات.
ومع بداية التسعينات دخل العالم مرحلة سياسية جديدة، فالأزمة الاقتصادية ازدادت عمقا وانهار الاتحاد السوفييتي وأنظمة الكتلة الشرقية، آخذين معهم الأحزاب الستالينية الكبرى في الغرب، وأدى عمق الأزمة الرأسمالية وتزايد البطالة ومحاولة الطبقات الحاكمة الهجوم المباشر على مكتسبات الطبقات العاملة إلى اشتداد الأزمة السياسية. ونجد الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الدول الأوروبية الرئيسية فاشلة في تقديم أي إصلاحات تذكر، ولم تعد قادرة على تحقيق أي من الوعود الانتخابية التي تطرحها على الطبقات العاملة، وقد أصبحت بالفعل حركة إصلاحية بدون إصلاحات. وعلى الرغم من وصول أحزاب اشتراكية ديمقراطية إلى الحكم من جديد في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، إلا أن هذه الأحزاب قد أصبحت مفلسة تماما وسرعان ما ينكشف إفلاسها أمام جماهيرها عندما تبدأ في سحب وعودها وتنفيذ برامج التقشف والهجوم على مصالح العمال، فقد أخذت هذه الأحزاب على عاتقها تنفيذ ما لم تستطع تنفيذه أحزاب اليمين في الثمانينات.
وفي ظل الإفلاس السياسي للأحزاب الإصلاحية ولأحزاب اليمين المحافظ بدأت الحركات العمالية في الصعود من جديد، فقد شهدت ألمانيا منذ 1992 أكبر إضرابات فيها منذ وصول هتلر إلى الحكم في 1933، وفي فرنسا شهد شتاء 1995 أكبر إضرابات ومظاهرات عمالية منذ 1968، وفي إيطاليا أيضا أعقبت انهيارات الأحزاب التقليدية (المسيحيين الديمقراطيين والاشتراكيين) أكبر مظاهرات عمالية منذ أوائل السبعينات، وفي أمريكا بدأت الحركة العمالية في استعادة نشاطها بإضرابات كبرى ناجحة في صناعة السيارات وقطاع البريد وغيرهما.
إن أهم ما يميز الصعود الحالي للحركات العمالية في الغرب هو أنه يحدث في ظروف فراغ سياسي شديد بسبب انهيار الأحزاب الستالينية وتحول الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية نحو اليمين، ففي السبعينات استطاعت هذه الأحزاب استيعاب الحركات العمالية والقضاء عليها تدريجيا، ولكن اليوم لم يعد لديها هذه القدرة. وهذه مسألة في غاية الأهمية، فلأول مرة هناك صعود واضح في الصراع الطبقي في ظل ضعف غير مسبوق للإصلاحية بجناحيها. ولم تقتصر المرحلة الجديدة على البلدان الرأسمالية المتقدمة، ففي العالم الثالث بدأت الكثير من النظم والأحزاب الوطنية في التأزم والانهيار بعد أن كانت قادرة سابقا على السيطرة شبه الكاملة على الحركات الجماهيرية. وقد تزامن ذلك مع صعود جديد لحركات عمالية وفلاحية لم يعد من الممكن خداعها بالتحرر الوطني وشعارات الوحدة الوطنية القديمة، وظهرت مثل هذه التحولات في الهند حيث انهارت سيطرة حزب المؤتمر وتصاعدت حركات احتجاجية واسعة النطاق وتصاعد أيضا اليمين المتطرف، وفي المكسيك يشهد الحزب الحاكم أزمات وضغوط متزايدة، وتصاعدت حركة فلاحيه مسلحة تهدد بخلق مد ثوري جديد في أمريكا اللاتينية بأسرها. وفي كوريا الجنوبية تنهار سريعا كل الأشكال القديمة الحاكمة وتنمو أكثر الحركات العمالية تنظيما ونضالية في آسيا. وقد رأينا خلال العام الماضي بداية العواقب السياسية للأزمة الاقتصادية العنيفة التي اجتاحت جنوب شرق آسيا ورأينا في إندونيسيا حركة جماهيرية ضخمة أطاحت بحكم الديكتاتور سوهارتو.
إذن فنحن في مرحلة جديدة من الصراع الطبقي عالميا. لقد انتهت فترة الجذر التي بدأت مع نهاية السبعينات، وقد دخلنا في مرحلة انتقالية تتميز بصعود في الصراع الطبقي واشتداد الأزمات الاقتصادية، وبداية انهيار المؤسسات الاستيعابية الإصلاحية من أحزاب اشتراكية وشيوعية وقومية. وتتميز أيضا هذه المرحلة بتفجر الحركات الجماهيرية العفوية من جانب وصعود الحركات اليمينية المتطرفة والفاشية من الجانب الآخر.
يمكننا الآن بعد عرض تحولات الاقتصاد المصري منذ الخمسينات، وعرض الإطار العالمي للأزمة الاقتصادية وتطور الصراع الطبقي أن نلخص تأثير هذه التحولات والتطورات على مجرى الصراع الطبقي في مصر.
كانت فترة الخمسينات وحتى منتصف الستينات فترة هيمنة شبه كاملة من قبل الناصرية على الحركة العمالية وعلى الريف المصري، ولم يكن ذلك بالقمع وحده، فقد أعطت الدولة للعمال بعض الحقوق والامتيازات الهامة مقابل هيمنتها السياسية الكاملة، وفي الريف خلق الإصلاح الزراعي وضعا مجمدا مكن السلطة الناصرية من السيطرة شبه الكاملة، (وقد تعاملت أجهزة القمع مع كل الاستثناءات بوحشيتها المعتادة)، ولكن، وكما أوضحنا في هذا المقال، فمع منتصف الستينات دخل النظام في أزمة اقتصادية حادة، وفشلت الخطة الخمسية الأولى، ومع الهزيمة الفاضحة في 1967، ظهرت شروخ كبرى في الهيمنة الناصرية وبدأت في 1968 تحركات عمالية وطلابية في الانفجار.
وفي منتصف السبعينات تصاعدت الحركة العمالية تصاعدا سريعا تتوج في انتفاضة 1977، والتي أدت إلى تأجيل سياسات التحرير الاقتصادي، ولكن بسبب غياب اليسار الثوري من جانب وقدرة النظام الاستيعابية من خلال المؤسسات الناصرية التي كانت لا تزال في حوزته من الجانب الآخر، تمكن النظام من السيطرة على الموقف وحافظ على الجوانب الأساسية من القوانين الناصرية من إصلاح زراعي وقطاع عام وقانون عمل، متجنبا أي مواجهة مباشرة مع الطبقة العاملة الصناعية ومع الفلاحين الفقراء. ولكنه باشر هجوما غير مباشر من خلال وقف التعيينات في القطاع العام والتقليل من ميزانيات التعليم والصحة، والرفع التدريجي للدعم على السلع الأساسية ووقف جميع أشكال الاستثمار العام في محافظات الصعيد. وقد ساعد النظام كما رأينا الارتفاع الحاد في أسعار البترول في التمكن من تأجيل سياسات التحرير الاقتصادي.
كانت نتيجة هذه السياسات منذ أواخر السبعينات وحتى بداية التسعينات هدوءا نسبيا للصراع الطبقي على المستوى العمالي وفي الريف مع صعود سريع للحركة الإسلامية التي استفادت من غياب اليسار وانتشار البطالة والإفقار الشديد لمحافظات الصعيد. إذن فقد كانت تلك الفترة شديدة التناقض، هجوم شديد من قبل الدولة ورأس المال على الفقراء ولكن بدون المساس بمؤسسات رأسمالية الدولة (القطاع العام، والإصلاح الزراعي)، وهدوء نسبي للحركة العمالية وحالة جمود في الريف في تزامن مع صعود سريع لحركة إسلامية مسلحة في الجنوب وفي القطاعات المهمشة في المدن.
ولكن مع بدايات التسعينات بدأ هذا الوضع المتناقض في التغيير، ويمكننا تلخيص محاور هذا التغيير كالتالي:
كما أوضحنا في مكان آخر من هذا المقال، أصبح واضحا مع بداية التسعينات أنه لم يعد من الممكن الاستمرار في تأجيل الإصلاحات الاقتصادية، فانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية وتحول كل تلك الدول إلى السوق ونجاح الصين في كسب أرضية واسعة في السوق العالمية وتفاقم الأزمة الرأسمالية في مصر، كان يعني أن الوقت لم يعد في صالح الرأسمالية المصرية، وأصبحت الإصلاحات الاقتصادية مسألة حياة أو موت. وبدأت الدولة في الهجوم المباشر على الطبقة العاملة الصناعية من خلال البيع السريع للقطاع العام، والتحضير الفعلي لتغيير قوانين العمل الناصرية ، وإلغاء كل الحقوق والامتيازات الباقية منذ الستينات، وبذلك بدأ بالفعل هدم الأساس المادي لقدرة النظام البرجوازي على استيعاب الطبقة العاملة والهيمنة عليها سياسيا.
وفي الريف أيضا تحركت الدولة سريعا منذ نهاية الثمانينات للقضاء على الوضع القائم الذي كان الإصلاح الزراعي قد خلقه، أولا من خلال تحرير أسعار المحاصيل الزراعية وخروج الدولة من عملية الإنتاج الزراعي، وإلغاء كافة أشكال الدعم للفلاحين في السماد والبذور والميكنة والائتمان، وأخيرا بإلغاء قوانين الإيجارات الزراعية. ومن خلال هذه السياسات دمرت الدولة بأيديها الاستقرار الطبقي النسبي في الريف، والذي ظل قائما منذ الناصرية، وكان يشكل أحد المحاور الأساسية التي كان النظام يعتمد عليها في الحفاظ على الاستقرار وولاء الريف له.
إن الدولة تقوم بعملية تفكيك منظم وسريع لأسس الاستقرار الطبقي في مصر، وبالتالي تفتح الأبواب لمرحلة جديدة من الصراع، ولكن هذه المرحلة الجديدة ليست بالطبع صعودا مباشرا وواضحا للحركة العمالية مثلا أو لحركة فلاحيه متصاعدة ومستمرة. إن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فأولا تؤدي التحولات الاقتصادية التي وصفتها هذه الدراسة إلى تحول هام في بنية الطبقة العاملة يجب أن يؤخذ في الاعتبار عندما نتحدث عن تحولات في مستوى الصراع الطبقي، فهناك تقليص شديد في حجم العمالة في القطاع العام من خلال تصفية كاملة لبعض الوحدات والتخلص مما يسمى بالعمالة الزائدة في وحدات أخرى من أجل بيعها، وذلك من خلال المعاش المبكر، وما يتم تصفيته في واقع الأمر هو الجيل الأكثر خبرة في العمل النقابي والمطلبي، ولكنه أيضا الأكثر محافظة وارتباطا بالتنظيم النقابي الأصفر والأعلى أجرا وحوافز، أما بقية العمال الذين سيظلون في المصانع بعد بيعها فسوف يتم تكثيف استغلالهم بشكل غير مسبوق، فهم الأصغر سنا، والأقل خبرة في العمل النقابي والمطلبي، ولكنهم الأكثر غضبا والأقل تأثرا وارتباطا بالحركة النقابية الصفراء.
تخلق هذه التحولات في مصانع وشركات القطاع العام وضعا متناقضا في الحركة العمالية، فمن جانب هناك غضب متزايد في قطاع واسع من العمال ولكن نفس هذا القطاع ليس لديه الخبرة أو التواصل مع الحركة العمالية السابقة، وبالتالي فهو غير قادر حتى الآن على بلورة شكل منظم وفعال للتعبير عن هذا الغضب، ويظهر هذا الوضع المتناقض بوضوح في التحركات العمالية منذ أواخر الثمانينات، فكلها تقريبا تتسم بالابتعاد عن اللجان النقابية، وبتصاعد غاضب ومتفجر للصراع، وتكون قيادات هذه التحركات سواء كانت إضرابات أو اعتصامات قيادات شابة لا علاقة لها بالجيل القديم من النقابيين ولكن سرعان ما يتم احتواء هذه التحركات بسبب قلة الخبرة والتنظيم.
أما المحور الثاني للتحول في بنية الطبقة العاملة فهو التطور السريع للقطاع الخاص الصناعي، والذي عرضنا تفاصيله في هذا المقال، فهناك في المدن الصناعية الجديدة طبقة عاملة صناعية جديدة في تشكيلة واسعة من الصناعات الثقيلة والخفيفة من صناعة الحديد والصلب والسيارات إلى الإليكترونيات والنسيج والملابس. هذا القطاع الجديد من الطبقة العاملة المصرية يتميز بكونه غير مرتبط بالبيروقراطية النقابية الحكومية بل أن الغالبية العظمى منهم غير منتمين لأي تشكيلات نقابية، ويتميز أيضا بوجود قطاع واسع من العمال المتعلمين ليست لهم الروابط الريفية التي لعبت تاريخيا دورا معرقلا لتطور الحركة العمالية في القطاع العام.
وظروف العمل في القطاعات الصناعية الجديدة تختلف نوعيا عن القطاع العام القديم، فمعدل الاستغلال أعلى بكثير والامتيازات والحقوق تكاد تكون معدومة، وقدرة الإدارات على استيعاب المطالب العمالية محدودة جدا، فالمنافسة شديدة ولا تسمح بأي تنازل للعمال.
إن التحولات الاقتصادية التي وصفناها أعلاه تأتي في سياق دمج الاقتصاد المصري سريعا في رأسمالية عالمية تتسم بالأزمات والتقلبات العنيفة، وفي ذات الوقت تقوم الدولة البرجوازية بتفكيك كل آليات الاستيعاب الطبقي التي كان استقرارها وهيمنتها تعتمدان عليها في الماضي، وتقوم بهجوم مباشر على كافة قطاعات الجماهير من عمال وفلاحين فقراء.
وتخلق هذه الظروف تصاعدا سريعا في الغضب والاحتجاج الجماهيري، ولكن هذا الغضب والاحتجاج لم يأخذ بعد أشكالا منظمة ومتواصلة ولم يزل يأخذ شكل الانفجارات الجزئية والمتفرقة، وهذا بسبب التحولات السريعة الجارية في بنية الطبقة العاملة من جانب، وبسبب الفراغ السياسي الرهيب الذي تعاني منه الحركات الجماهيرية اليوم.
إن المرحلة التي نمر بها اليوم هي مرحلة انتقالية، لقد انتهى عهد الاستيعاب والاستقرار الطبقي، ولم تتبلور بعد مقاومة جماهيرية منظمة، وهذه المرحلة الانتقالية تحدث في ظل فراغ سياسي شديد. إن هذه الظروف تتيح فرصة تاريخية لصعود الاشتراكية، ولكن هذه الفرصة لن تظل مطروحة لفترة طويلة، فإذا لم يستفد الاشتراكيون من هذه الفرصة فسرعان ما سيملأ الفراغ بتيارات برجوازية صغيرة تحرف الحركات الجماهيرية عن المسار الاشتراكي.
‹ النظام الجديد: الإصلاح الاقتصادي فوق الهوامش ›
* نسخة للطباعة
التعليقات
علِّق
Comment: *
* Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
* Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
* Lines and paragraphs break automatically.
More information about formatting options
* من نحن
* اتصل بنا
* مواقع مفيدة
* أنشطة
* أجندة
* الرئيسية
Search this site:
* English
o About Us
o Contact Us
o Statements
o Publications
تحولات الاقتصاد المصري.. ملاحظات أولية
* تمهيد
* النظام القديم: نشأة وتطور رأسمالية الدولة في مصر
* النظام الجديد: الإصلاح الاقتصادي
* الأزمة الاقتصادية العالمية والاقتصاد المصري
* الهوامش
Get Firefox! Fire up the Fox!
* رؤيتنا
* بيانات
* إصدارات
* جريدة الاشتراكي
* مجلة أوراق اشتراكية
* الاشتراكية الثورية المصرية
* المكتبة الاشتراكية
* عمال
* جبهات وحملات
* اليسار والحركة الشيوعية
* نصوص ووثائق
* أرشيف الأخبار
قائمتنا البريدية
كن على اتصال دائم بآخر أخبارنا
Email: *
Subscribe
الغ الاشتراك
Creative Commons License
تتحدث أجهزة الإعلام والصحافة الحكومية ليل نهار حول صحة الاقتصاد المصري وإنجازاته العظيمة ونموه غير المسبوق. فالحكومة تزعم أن معدل نمو إجمالي الناتج المحلي المصري وصل إلى أكثر من 5% عام 1998، وأنه سيتخطى 7% في عام 1999 (61)، وأن هذه المعدلات العالية للنمو ستستمر في بدايات القرن الجديد، بل ستصل إلى قمم أعلى. وتضع الحكومة كل خططها الاقتصادية على أساس هذه التوقعات المتفائلة، فمشروع توشكى، ومشروع شرق العوينات، ومشروع خليج السويس وغيرها من الخطط الطموحة لن تكون ممكنة إلا في ظل نمو غير مسبوق للاقتصاد المصري.
ويعتمد التفاؤل الحكومي على توقعين أساسيين. الأول هو أن الاستثمارات الأجنبية والمحلية ستستمر في التدفق لشراء القطاع العام والاستثمار في البورصة وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية، ويستند هذا التوقع على تطورات النصف الأول من التسعينات والتي شهدت أكبر تدفق للاستثمارات إلى ما يسمى بالأسواق الناشئة، أي البلدان حديثة التصنيع. وخبرة النصف الأول من التسعينات كانت تشير إلى أنه كلما تبنت الحكومات سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة كلما تدفقت عليها الاستثمارات.
وبالفعل، فحتى عام 1997-1998 كانت الاستثمارات الأجنبية تزداد بسرعة في السوق المصري، سواء في مجال شراء أسهم شركات القطاع العام أو في مجال المشاريع الصناعية، فقد ارتفع إجمالي الاستثمارات الأجنبية في مصر من حوالي 600 مليون جنيه في عام 1994، إلى حوالي 5 مليار جنيه مصري عام 1997. (62) وتظل توقعات الحكومة مركزة في استمرار بل وتزايد هذه التدفقات.
والتوقع الآخر هو الزيادة في قدرة الاقتصاد المصري على التصدير، فالمشاريع الزراعية العملاقة والمشاريع الصناعية الخاصة ستلعب في خطة الحكومة دورا رائدا في مضاعفة قيمة الصادرات المصرية. ويعتمد التوقعان (زيادة الاستثمارات وزيادة الصادرات) على خبرة بلدان جنوب شرق آسيا خلال التسعينات، وعلى تصور استمرار انتعاش وتوسع السوق العالمي.
ولكن هذه التوقعات تصطدم بالأزمة العنيفة التي يعاني منها الاقتصاد العالمي، وخاصة الأسواق الناشئة فيه. إن فهم ما يحدث في الاقتصاد العالمي اليوم يجعل توقعات وتصريحات الحكومة أقرب إلى الكوميديا أو الخيال العلمي منها إلى الواقع. فالحكومة تتحدث وكأن الاقتصاد المصري جزء من اقتصاد كوكبي آخر غير الأرض، ففي حين تنهار بلد تلو الأخرى في دوامة الأزمة والركود تتوقع الحكومة المصرية أن تظل وحدها في حالة انتعاش ونمو. لنلقي نظرة على ما يحدث في الاقتصاد العالمي وتأثيرات ذلك على الاقتصاد المصري في الفترة القادمة.
تتطور الأزمة الاقتصادية العالمية بسرعة مذهلة منذ نهاية 1997، وتهدد بكوارث أعنف كثيرا من أكثر التنبؤات تشاؤما. وتشير التقديرات الحالية إلى أن حوالي 50% من بلدان العالم في حالة ركود عنيف وانكماش اقتصادي. وإذا استمر الوضع كما هو عليه في اليابان وجنوب شرق آسيا وروسيا والبرازيل، وإذا انضم الاقتصاد الأمريكي إلى نادي الركود سيؤدي ذلك إلى انخفاض الناتج العالمي الإجمالي في عام 1999-2000 لأول مرة منذ 60 عاما (63)، وقد أصبحت التحليلات الاقتصادية لهذه الأسباب تتحدث عن إمكانية حدوث كساد عالمي كبير، ربما يكون أشد عنفا من الكساد الكبير في الثلاثينات.
وإذا نظرنا إلى الاقتصاد الياباني، وهو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي، نجده يدخل في مرحلة خطيرة من الأزمة، فقد انكمش الاقتصاد الياباني بنسبة 3.3% من إجمالي الناتج المحلي في عام 1998 مما يؤدي إلى عواقب مدمرة على الصناعة اليابانية، فشركة تاو للحديد والصلب مثلا وهي من أكبر ثلاث شركات حديد في العالم أعلنت في نهاية 1998 أنها على وشك الإفلاس، مما يشكل أكبر فشل لشركة صناعية يابانية منذ الحرب العالمية الثانية. وقد كانت التوقعات في بداية 1998 تشير إلى أن الركود سيكون مركزا في القطاع المالي والتجاري ولكنه الآن انتشر سريعا إلى القطاع الصناعي وقد وصل معدل البطالة في اليابان إلى 4.5% حسب تقدير الحكومة اليابانية، ولكن هذه النسبة تصل إلى 10% إذا ما تم تحديدها بنفس المعايير الأوروبية والأمريكية. (64) مثل آخر على سرعة تطور الأزمة هو ما يحدث لشركة هيتاشي العملاقة، فقد حققت هذه الشركة 3.48 مليار ين من الأرباح في 1997، في حين حققت نفس الشركة في عام 1998 خسائر تقدر بـ 250 مليار ين، مما يعني إغلاق عشرات المصانع في اليابان ومئات المصانع في جنوب شرق آسيا. (65)
وتهدد الأزمة التي اجتاحت جنوب شرق آسيا وأدت إلى انهيار اقتصادات إندونيسيا وتايلاند وماليزيا بإغراق الصين. فهناك ضغط شديد الآن على الحكومة الصينية لتخفيض قيمة العملة (الرينمنبي) بالنسبة للدولار. والمشكلة بالنسبة للحكومة الصينية هي أنه إذا لم تخفض قيمة العملة ستصبح صادرات الصين أغلى من صادرات الدول التي تم فيها تخفيض قيمة العملة إلى أقل من النصف مما يهدد بأزمة فائض إنتاج عميقة في الصين وبالتالي إلى ركود شديد. أما إذا تم تخفيض قيمة العملة ستكون النتيجة هروب واسع النطاق وسريع لرأس المال الأجنبي، وأيضا قطاعات من رأس المال الصيني خاصة التجاري والمالي، مما يهدد بانهيار اقتصادي شبيه بالذي حدث في تايلاند وإندونيسيا. (66)
ولكن ماذا عن الاقتصاد الأمريكي وهو أكبر وأهم اقتصاد في العالم؟ لم تعد الطبقة الحاكمة الأمريكية تؤمن بإمكانية تجنب الأزمة العالمية، وقد أعلن آلان جرينبان، رئيس البنك المركزي الأمريكي، في سبتمبر 1998 أن أمريكا لن يمكنها أن تبقى واحة رخاء في عالم يعاني من ضغوط شديدة ومتزايدة. وأكثر ما يهدد الاقتصاد الأمريكي الآن هو التطورات في أسواق المال في أمريكا اللاتينية، فمع نهاية 1998 انخفضت البورصات في أمريكا اللاتينية بنسبة 60%، وقد أثرت هذه التطورات بشكل مباشر في الاقتصاد الأمريكي، فأكثر من 40% من الصادرات الأمريكية تذهب إلى أمريكا اللاتينية، والبنوك الأمريكية الكبرى أكثر ارتباطا بهذه المنطقة من ارتباطها بأسواق آسيا. (67)
ولكن الشيء الذي يخيف الطبقة الحاكمة الأمريكية هو التطورات في البرازيل، فالبرازيل هي أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وهي مسئولة عن 45% من الناتج الإجمالي للقارة، وقد اضطرت الحكومة البرازيلية لتخفيض قيمة عملتها مما أدى إلى هروب واسع لرأس المال وانهيار العملة إلى أقل من ثلثي قيمتها، وقد رفعت الحكومة معدل الفائدة إلى 50% في محاولة منها لإنقاذ العملة من المزيد من الانهيار، ولكن هذا الإجراء نفسه أدى إلى تضخيم العجز في الموازنة والذي وصل إلى أكثر من 20% من إجمالي الناتج المحلي، والوسيلة الوحيدة لتخفيض العجز والتي بدأت الحكومة في إتباعها هي تخفيض عنيف للإنفاق الاجتماعي ضاعف معدل البطالة وبدأت تخلق حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
لقد بدأت دوامة الأزمة العالمية مع انهيار عملة البات التايلاندية في صيف 1997، ولكن في ذلك الحين لم يكن أحد من المحللين البرجوازيين يتوقع تطور الأزمة بالسرعة والشمول اللذين رأيناهما خلال عام 1998، فالكل كان يكتب عن أزمة مالية مؤقتة سيتم تجاوزها خلال عدة أشهر ويتم بعدها العودة إلى النمو السريع. إن التحليل الماركسي وحده هو القادر على الفهم المعمق للأزمة وطبيعتها، وبالتالي هو القادر على التنبؤ بتطوراتها، فانفجار الأزمة في آسيا وانتشارها عالميا يمكن فهمه من خلال دورة الركود والانتعاش التي كتب عنها ماركس ومشكلات فائض الإنتاج التي تخلقها هذه الدورة.
كان اقتصاد جنوب شرق آسيا واليابان قد شهد نموا إنتاجيا سريعا في العقود الثلاثة الماضية، وقد أدى هذا النمو إلى تحولات واسعة النطاق، فقد أصبحت بلدان مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة مراكز صناعية رأسمالية متطورة، وقد ميز تطور الرأسمالية الصناعية في هذه البلدان اعتمادها الشديد على النمو التصديري، فاستطاعت أن تخلق لنفسها مكانا في السوق العالمي وأن تتحرك سريعا من الصناعات الأولية مثل النسيج والملابس إلى صناعات الحديد والصلب والسفن والإليكترونات والسيارات. ولكن هذا النمو اعتمد كليا على وجود سوق عالمي قادر على استيعاب هذه السلع المتزايدة، وهذا يعني أن أي انكماش لهذا السوق يؤدي إلى أزمة فائض إنتاج. وقد ظهرت بوادر هذا الانكماش في مارس 1997 في كوريا الجنوبية عندما أفلست شركة هانبو العملاقة للحديد والصلب وشركة كيا للسيارات. وكلما تفاقمت أزمة فائض الإنتاج كلما اضطر الرأسماليون لتخفيض أسعار السلع، وقد انخفض مثلا سعر المكونات الإليكترونية بنسبة 80% خلال عام 1998.
كان التوسع الاقتصادي في اليابان شديد الاعتماد على قروض ضخمة من البنوك، وعندما أدى فائض الإنتاج إلى انهيار الأرباح لم تعد الشركات قادرة على دفع ديونها مما أدى إلى بداية سلسلة الانهيار المالي ومنه إلى أزمة اقتصادية معممة. وقد أدت الأزمة اليابانية وانهيار اقتصاد شرق آسيا إلى خفض الطلب على المواد الخام الأساسية وأهمها البترول الذي انهارت أسعاره سريعا رغم محاولات الأوبك لإنقاذها. وأدى انهيار أسعار البترول إلى تعميق الأزمة في روسيا، وفي بلدان أمريكا الجنوبية المعتمدة على تصدير البترول.
إن العوامل الأساسية التي تعمق الأزمة العالمية الحالية هي أن النظام المالي أصبح عالميا، وحرية الحركة لرأس المال المالي أصبحت أحد أهم سماته، وهذا يعني أن تحريك الاستثمارات المالية من المناطق منخفضة الربحية إلى المناطق مرتفعة الربحية يحدث بشكل سريع ولا يمكن التحكم فيه، وقد شهدنا الهروب السريع وغير المسبوق لرأس المال المالي من أسواق جنوب شرق آسيا المنهارة إلى أسواق أوروبا وأمريكا الأقل تأزما خلال 1998.
وإذا نظرنا إلى الأزمة الحالية بشكل تاريخي سنجد أن هناك ميل لانخفاض معدل الربح منذ أوائل السبعينات، وقد أدى هذا إلى فترات انتعاش قصيرة جدا وضعيفة يعقبها فترات ركود عنيفة، وفشل الرأسمالية في رفع معدلات الربح بشكل كافي يعني تكرار لفترات الركود العنيفة. ونحن الآن في بدايات رابع ركود عالمي منذ بداية السبعينات (73/74، 81/82، 91/92) وكل المؤشرات توضح أنه سيكون أعنف ركود، وهناك احتمالات تحوله إلى كساد عظيم مثل الذي شهده النظام العالمي في الثلاثينات.
وإذا عدنا إلى الاقتصاد المصري فنجد النظام يدعي أنه استطاع بسياساته الحكيمة أن يجنب الاقتصاد المصري الدخول في الأزمة، والنظام يعتمد في زعمه على أن معدل النمو للاقتصاد المصري ما زال بالإيجاب (بين 3% و 5%) ومعدل التضخم لم يزد عن 5% في السنوات الثلاث الماضية، ولم يضطر النظام حتى الآن إلى تخفيض قيمة الجنيه، وهذه كلها حقائق ولكنها حقائق تشير ليس إلى عبقرية سياسات النظام ولكن إلى كون النظام قد فشل في الفترة السابقة في الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتحويل مصر إلى بلد صناعية مصدرة. فإذا قلنا أن الأزمة في بلدان جنوب شرق آسيا هي أزمة فائض إنتاج فهذا الفائض هو نتيجة النمو السريع السابق لصناعة وصادرات هذه البلدان. ولكن نحن والحمد لله لم يحدث لدينا أي نوع من النمو في الصادرات (نسبة الصادرات المصرية من إجمالي التجارة العالمية انخفض من 0.27% إلى 0.1% ما بين 1970 و1997). (68) وبالتالي فلم يشكل انكماش الطلب في السوق العالمي أي ضغط يذكر على الاقتصاد المصري.
ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الاقتصاد المصري، كما يزعم النظام، سيظل خارج نطاق الأزمة بل على العكس من ذلك، فسوف تكون آثار الأزمة العالمية شديدة العنف على الاقتصاد المصري في الحقبة القادمة، وهذا لعدة أسباب:
أولاً: إن كل خطط النظام في الاستثمار معتمدة على دخول مكثف للاستثمارات الأجنبية إلى الاقتصاد المصري سواء في الأسواق المالية أو في المشاريع الكبرى، ولكن هناك اليوم هروب واسع النطاق من كل الأسواق الناشئة والسوق المصري لن يكون الاستثناء.
ثانياً: إن استمرار انخفاض سعر البترول يشكل كارثة بالنسبة للاقتصاد المصري، فهناك ثلاثة مصادر أساسية للعملة الأجنبية تعتمد عليها الدولة، الأول هو تصدير البترول (60% من الصادرات)، والثاني رسوم قناة السويس، والثالث هو عائدات المصريين العاملين في الخليج، وهذه المصادر الثلاث معتمدة بالطبع على اقتصاد البترول، وانخفاض سعر البترول يعني تقليصا لهذه المصادر الثلاثة.
ثالثاً: يشكل هذا التقليص بدوره ضغطا مضاعفا على الحكومة المصرية لتخفيض قيمة الجنيه، فالبنك المركزي يحافظ على قيمة الجنيه بالنسبة للدولار من خلال احتفاظه بمخزون ضخم من الدولارات واستخدام هذا المخزون لشراء الجنيهات المصرية لإبقائها عند نفس قيمتها بالنسبة للدولار.
رابعاً: على الرغم من صغر حجم الصادرات المصرية، خاصة الصناعية منها، فالحكومة معتمدة على خطة تحويل الاقتصاد المصري نحو التصدير كحل وحيد لتنشيط الرأسمالية الصناعية في مصر. فالسوق المحلي محدود للغاية وينكمش سريعا بسبب سياسات التكيف الهيكلي، ولكن فرص زيادة التصدير أصبحت معدومة في الفترة القادمة، ليس فقط لأن السوق العالمي ينكمش ولكن أيضا لأن دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية اضطرت لتخفيض قيمة عملاتها لأقل من النصف في كثير من الحالات، وبالتالي أصبحت سلعها أرخص كثيرا مما كانت عليه من قبل، فكيف يمكن للسلع المصرية أن تكون منافسة اليوم وهي لم تكن قادرة على ذلك حتى بالأسعار القديمة؟!
خامساً: إن كل المشروعات العملاقة التي تقوم بها الدولة اليوم من موانئ في خليج السويس إلى مشاريع صناعية وزراعية ضخمة في توشكى، ومشروعات سياحية واسعة النطاق في سيناء والساحل الشمالي، كل هذه المشروعات تعتمد تماما على توقعات نمو طويل المدى في الاقتصاد المصري والعالمي، فالموانئ تعتمد على زيادة في التجارة العالمية (خاصة بين جنوب شرق آسيا وأوروبا) وهو ما ينخفض بشكل غير مسبوق اليوم. والمشروعات الزراعية تعتمد على زيادة الطلب العالمي على منتجاتها ونفس الشيء بالنسبة للسياحة. إن الاندماج في الاقتصاد العالمي وهو في لحظة كساد سيعني تحول كل هذه المشروعات إلى مدن أشباح، وسيعني أيضا انهيار البنوك التي قامت بتمويلها.
سادساً: هناك انهيار عام في أسعار السلع الأساسية عالميا، وهذا يشمل البترول والمنتجات الزراعية والمعادن التي انخفضت أسعارها بنسب تتراوح بين 50 و 70% خلال التسعينات. (69) وهذا التطور يحدث في نفس الوقت الذي تقوم فيه الحكومة بتحرير أسعار المنتجات الزراعية. أي أن الحكومة تترك الفلاح حرا أمام السوق العالمي المنهار، وهذا لن يعني إلا الجوع لقطاعات واسعة من الفلاحين الفقراء في الفترة القادمة.
إن مدى تأثير هذه العوامل سيعتمد بالطبع على مدى العمق الذي ستصل إليه أزمة الاقتصاد العالمي ، ولكن في كل الحالات ستحاول الرأسمالية إجبار جماهير العمال والفلاحين على دفع ثمن الأزمة. إن التحولات الاقتصادية سيكون لها تأثيرات ضخمة على الصراع الطبقي عالميا ومحليا، سنحاول في الجزء المتبقي من هذا المقال رصد أهم تطورات الصراع الطبقي وطبيعة مرحلته الحالية عالميا ومحليا.
التحولات الاقتصادية والصراع الطبقي
إن مصر ليست معزولة عن النظام الرأسمالي العالمي، بل هي جزء لا يتجزأ من هذا النظام، ولا يمكن فهم تحول مصر من نظام رأسمالية الدولة إلى نظام السوق الحر إلا بفهم التحولات الجارية في النظام العالمي، وكذا لا يمكن فهم ما حدث من تغييرات ويحدث من تغييرات في الصراع الطبقي في مصر إلا من خلال وضع هذه التغييرات في سياقها العالمي.
كانت الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الستينات فترة ازدهار نظام رأسمالية الدولة على النطاق العالمي، وقد أدى هذا الازدهار إلى حالة هدوء نسبي في الصراع الطبقي عالميا، فقد سمحت معدلات النمو الاقتصادي وسيطرة وتدخل الدولة في الشرق والغرب، وحتى في رأسماليات الدول حديثة التحرر من الاستعمار، بهيمنة غير مسبوقة للأحزاب الإصلاحية على الحركات العمالية.
في الغرب كانت الهيمنة للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، وفي الشرق لم تكن الهيمنة للستالينية فقط من خلال القمع العنيف بل أيضا من خلال تحسين ملموس ومستمر في مستوى معيشة قطاع كبير من العمال. وقد كانت هناك استثناءات هامة لهذه الهيمنة في الانفجارات العمالية في بولندا وألمانيا الشرقية 1953، وفي الثورة المجرية 1956، ولكن الستالينية استطاعت أن تقمع هذه المحاولات دون تحولها إلى موجات ثورية تهدد الطبقة الحاكمة في روسيا.
أما في بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، والبلدان حديثة التحرر من الاستعمار، كانت الهيمنة للحركات الوطنية البرجوازية الصغيرة بأطروحاتها الإصلاحية على الحركة العمالية، وكانت الهيمنة ذات طابع متشابه بين البلدان المختلفة رغم تنويعاتها على المستوى الشكلي (الماوية، الناصرية، الاشتراكية الإفريقية، الخ).
بدأ الانتعاش الاقتصادي العالمي والذي كان أساس قدرة الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة الإصلاحية على الهيمنة على الحركات العمالية، في الانحسار مع نهاية الستينات، وظهرت شروخ واضحة في سيطرة الأحزاب الإصلاحية ونشأت في الغرب حركات طلابية راديكالية خارج نطاق الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، وشهدت فرنسا في مايو 1968 أكبر إضراب عام في التاريخ، حيث أضرب أكثر من 12 مليون عامل، والجدير بالذكر أن العام السابق للإضراب كان عاما بلا أي أحداث عمالية تذكر .
وتصاعد الصراع الطبقي مع بداية السبعينات حيث دخل الاقتصاد العالمي أعنف أزمة له منذ الثلاثينات، وتطورت موجات الإضرابات العمالية إلى تحركات عمالية واسعة النطاق. ونمت معها تنظيمات يسارية راديكالية على يسار الأحزاب الستالينية، وبدا الأمر وكأن الثورة على الأبواب، فكل شهر يشهد إضرابات ومظاهرات أكبر وأكثر تأثيراً، مثل احتلال المصانع في تورينو وميلانو، وإسقاط عمال المناجم للحكومة في بريطانيا، والإطاحة بالديكتاتورية الحاكمة في البرتغال، وإقامة سلطة مزدوجة تهدد بالفعل بالتحول إلى ثورة عمالية، ومثل انهيار الأنظمة الديكتاتورية في اليونان وأسبانيا تحت ضغط الحركة الجماهيرية.
ولم تكن بلدان أوروبا الشرقية والعالم الثالث خارج نطاق المد في الصراع الطبقي، حيث انتشرت المظاهرات والإضرابات. ولعل أهم أحداث الشرق كانت انتفاضة براج 1968 والتي لم يستطع قمعها إلا الدبابات الروسية، وفي المكسيك قامت مظاهرات لم يشهد مثلها منذ الثورة المكسيكية، وفي تشيلي تصاعدت الحركة العمالية وأتت بالحزب الاشتراكي للسلطة بزعامة سلفادور الليندي.
ولكن الصعود الذي شهده الصراع الطبقي عالميا لم يؤد في نهاية الأمر إلى ثورات عمالية ناجحة، واستطاعت الرأسمالية أن تعيد الاستقرار إلى غالبية المراكز الرئيسية للتراكم الرأسمالي رغم استمرار الأزمة. وقد تمكنت الرأسمالية من ذلك من خلال مساعدة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية، فهذه الأحزاب تمكنت من تجاوز صدمة الحركات الاحتجاجية العفوية واستيعاب الحركات العمالية التي كانت قد بدأت في الاستقلال عنها، هذا الاستيعاب تم من خلال تغيير الشعارات والتكتيكات قصيرة المدى في اتجاه يساري. وقد نجحت عملية الاستيعاب الإصلاحي للصعود العمالي بسبب الضعف النسبي لليسار الثوري، فعلى الرغم من ظهور ونمو العديد من المنظمات الثورية في تلك الفترة ظلت هذه المنظمات صغيرة وقليلة الخبرة مقارنة بالأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والستالينية ذات التراث الطويل ومئات الآلاف من الأعضاء والجذور القوية في النقابات العمالية، وبالتالي فلم تستطع المنظمات الثورية أن تقدم بديلا حقيقيا أمام الحركة العمالية الصاعدة.
ومع انحسار المد في نهاية السبعينات بدأ اليمين في هجومه المضاد على الطبقات العاملة - ريجان في أمريكا، وتاتشر في بريطانيا، وأحزاب المسيحيين الديمقراطيين في ألمانيا وإيطاليا. واستطاع اليمين بمساعدة الاشتراكية الديمقراطية والستالينية انتزاع عدد من المكاسب التي كانت الحركة العمالية قد حصلت عليها. ولكن اليمين لم يستطع في هجمة الثمانينات في أوروبا وأمريكا أن يدمر الحركة العمالية كما كان يهدف، ولم يستطع أيضا أن يخفض الأجور بشكل حقيقي، ففي بريطانيا مثلا لم تنخفض الأجور الحقيقية طوال فترة حكم المحافظين.
وشملت إعادة الاستقرار الرأسمالي وهيمنة اليمين على بلدان العالم الثالث، ففي المكسيك استطاع الحزب القومي الحاكم إعادة سيطرته بعد الانفجارات الطلابية والعمالية الكبرى فيما بين 1968 ومنتصف السبعينات، في تشيلي قضى انقلاب بينوشيه على اليسار والحركة العمالية في 1973، تلك الحركة التي ظلت في حالة تصاعد منذ أواخر الستينات.
ومع بداية التسعينات دخل العالم مرحلة سياسية جديدة، فالأزمة الاقتصادية ازدادت عمقا وانهار الاتحاد السوفييتي وأنظمة الكتلة الشرقية، آخذين معهم الأحزاب الستالينية الكبرى في الغرب، وأدى عمق الأزمة الرأسمالية وتزايد البطالة ومحاولة الطبقات الحاكمة الهجوم المباشر على مكتسبات الطبقات العاملة إلى اشتداد الأزمة السياسية. ونجد الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الدول الأوروبية الرئيسية فاشلة في تقديم أي إصلاحات تذكر، ولم تعد قادرة على تحقيق أي من الوعود الانتخابية التي تطرحها على الطبقات العاملة، وقد أصبحت بالفعل حركة إصلاحية بدون إصلاحات. وعلى الرغم من وصول أحزاب اشتراكية ديمقراطية إلى الحكم من جديد في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، إلا أن هذه الأحزاب قد أصبحت مفلسة تماما وسرعان ما ينكشف إفلاسها أمام جماهيرها عندما تبدأ في سحب وعودها وتنفيذ برامج التقشف والهجوم على مصالح العمال، فقد أخذت هذه الأحزاب على عاتقها تنفيذ ما لم تستطع تنفيذه أحزاب اليمين في الثمانينات.
وفي ظل الإفلاس السياسي للأحزاب الإصلاحية ولأحزاب اليمين المحافظ بدأت الحركات العمالية في الصعود من جديد، فقد شهدت ألمانيا منذ 1992 أكبر إضرابات فيها منذ وصول هتلر إلى الحكم في 1933، وفي فرنسا شهد شتاء 1995 أكبر إضرابات ومظاهرات عمالية منذ 1968، وفي إيطاليا أيضا أعقبت انهيارات الأحزاب التقليدية (المسيحيين الديمقراطيين والاشتراكيين) أكبر مظاهرات عمالية منذ أوائل السبعينات، وفي أمريكا بدأت الحركة العمالية في استعادة نشاطها بإضرابات كبرى ناجحة في صناعة السيارات وقطاع البريد وغيرهما.
إن أهم ما يميز الصعود الحالي للحركات العمالية في الغرب هو أنه يحدث في ظروف فراغ سياسي شديد بسبب انهيار الأحزاب الستالينية وتحول الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية نحو اليمين، ففي السبعينات استطاعت هذه الأحزاب استيعاب الحركات العمالية والقضاء عليها تدريجيا، ولكن اليوم لم يعد لديها هذه القدرة. وهذه مسألة في غاية الأهمية، فلأول مرة هناك صعود واضح في الصراع الطبقي في ظل ضعف غير مسبوق للإصلاحية بجناحيها. ولم تقتصر المرحلة الجديدة على البلدان الرأسمالية المتقدمة، ففي العالم الثالث بدأت الكثير من النظم والأحزاب الوطنية في التأزم والانهيار بعد أن كانت قادرة سابقا على السيطرة شبه الكاملة على الحركات الجماهيرية. وقد تزامن ذلك مع صعود جديد لحركات عمالية وفلاحية لم يعد من الممكن خداعها بالتحرر الوطني وشعارات الوحدة الوطنية القديمة، وظهرت مثل هذه التحولات في الهند حيث انهارت سيطرة حزب المؤتمر وتصاعدت حركات احتجاجية واسعة النطاق وتصاعد أيضا اليمين المتطرف، وفي المكسيك يشهد الحزب الحاكم أزمات وضغوط متزايدة، وتصاعدت حركة فلاحيه مسلحة تهدد بخلق مد ثوري جديد في أمريكا اللاتينية بأسرها. وفي كوريا الجنوبية تنهار سريعا كل الأشكال القديمة الحاكمة وتنمو أكثر الحركات العمالية تنظيما ونضالية في آسيا. وقد رأينا خلال العام الماضي بداية العواقب السياسية للأزمة الاقتصادية العنيفة التي اجتاحت جنوب شرق آسيا ورأينا في إندونيسيا حركة جماهيرية ضخمة أطاحت بحكم الديكتاتور سوهارتو.
إذن فنحن في مرحلة جديدة من الصراع الطبقي عالميا. لقد انتهت فترة الجذر التي بدأت مع نهاية السبعينات، وقد دخلنا في مرحلة انتقالية تتميز بصعود في الصراع الطبقي واشتداد الأزمات الاقتصادية، وبداية انهيار المؤسسات الاستيعابية الإصلاحية من أحزاب اشتراكية وشيوعية وقومية. وتتميز أيضا هذه المرحلة بتفجر الحركات الجماهيرية العفوية من جانب وصعود الحركات اليمينية المتطرفة والفاشية من الجانب الآخر.
يمكننا الآن بعد عرض تحولات الاقتصاد المصري منذ الخمسينات، وعرض الإطار العالمي للأزمة الاقتصادية وتطور الصراع الطبقي أن نلخص تأثير هذه التحولات والتطورات على مجرى الصراع الطبقي في مصر.
كانت فترة الخمسينات وحتى منتصف الستينات فترة هيمنة شبه كاملة من قبل الناصرية على الحركة العمالية وعلى الريف المصري، ولم يكن ذلك بالقمع وحده، فقد أعطت الدولة للعمال بعض الحقوق والامتيازات الهامة مقابل هيمنتها السياسية الكاملة، وفي الريف خلق الإصلاح الزراعي وضعا مجمدا مكن السلطة الناصرية من السيطرة شبه الكاملة، (وقد تعاملت أجهزة القمع مع كل الاستثناءات بوحشيتها المعتادة)، ولكن، وكما أوضحنا في هذا المقال، فمع منتصف الستينات دخل النظام في أزمة اقتصادية حادة، وفشلت الخطة الخمسية الأولى، ومع الهزيمة الفاضحة في 1967، ظهرت شروخ كبرى في الهيمنة الناصرية وبدأت في 1968 تحركات عمالية وطلابية في الانفجار.
وفي منتصف السبعينات تصاعدت الحركة العمالية تصاعدا سريعا تتوج في انتفاضة 1977، والتي أدت إلى تأجيل سياسات التحرير الاقتصادي، ولكن بسبب غياب اليسار الثوري من جانب وقدرة النظام الاستيعابية من خلال المؤسسات الناصرية التي كانت لا تزال في حوزته من الجانب الآخر، تمكن النظام من السيطرة على الموقف وحافظ على الجوانب الأساسية من القوانين الناصرية من إصلاح زراعي وقطاع عام وقانون عمل، متجنبا أي مواجهة مباشرة مع الطبقة العاملة الصناعية ومع الفلاحين الفقراء. ولكنه باشر هجوما غير مباشر من خلال وقف التعيينات في القطاع العام والتقليل من ميزانيات التعليم والصحة، والرفع التدريجي للدعم على السلع الأساسية ووقف جميع أشكال الاستثمار العام في محافظات الصعيد. وقد ساعد النظام كما رأينا الارتفاع الحاد في أسعار البترول في التمكن من تأجيل سياسات التحرير الاقتصادي.
كانت نتيجة هذه السياسات منذ أواخر السبعينات وحتى بداية التسعينات هدوءا نسبيا للصراع الطبقي على المستوى العمالي وفي الريف مع صعود سريع للحركة الإسلامية التي استفادت من غياب اليسار وانتشار البطالة والإفقار الشديد لمحافظات الصعيد. إذن فقد كانت تلك الفترة شديدة التناقض، هجوم شديد من قبل الدولة ورأس المال على الفقراء ولكن بدون المساس بمؤسسات رأسمالية الدولة (القطاع العام، والإصلاح الزراعي)، وهدوء نسبي للحركة العمالية وحالة جمود في الريف في تزامن مع صعود سريع لحركة إسلامية مسلحة في الجنوب وفي القطاعات المهمشة في المدن.
ولكن مع بدايات التسعينات بدأ هذا الوضع المتناقض في التغيير، ويمكننا تلخيص محاور هذا التغيير كالتالي:
كما أوضحنا في مكان آخر من هذا المقال، أصبح واضحا مع بداية التسعينات أنه لم يعد من الممكن الاستمرار في تأجيل الإصلاحات الاقتصادية، فانهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية وتحول كل تلك الدول إلى السوق ونجاح الصين في كسب أرضية واسعة في السوق العالمية وتفاقم الأزمة الرأسمالية في مصر، كان يعني أن الوقت لم يعد في صالح الرأسمالية المصرية، وأصبحت الإصلاحات الاقتصادية مسألة حياة أو موت. وبدأت الدولة في الهجوم المباشر على الطبقة العاملة الصناعية من خلال البيع السريع للقطاع العام، والتحضير الفعلي لتغيير قوانين العمل الناصرية ، وإلغاء كل الحقوق والامتيازات الباقية منذ الستينات، وبذلك بدأ بالفعل هدم الأساس المادي لقدرة النظام البرجوازي على استيعاب الطبقة العاملة والهيمنة عليها سياسيا.
وفي الريف أيضا تحركت الدولة سريعا منذ نهاية الثمانينات للقضاء على الوضع القائم الذي كان الإصلاح الزراعي قد خلقه، أولا من خلال تحرير أسعار المحاصيل الزراعية وخروج الدولة من عملية الإنتاج الزراعي، وإلغاء كافة أشكال الدعم للفلاحين في السماد والبذور والميكنة والائتمان، وأخيرا بإلغاء قوانين الإيجارات الزراعية. ومن خلال هذه السياسات دمرت الدولة بأيديها الاستقرار الطبقي النسبي في الريف، والذي ظل قائما منذ الناصرية، وكان يشكل أحد المحاور الأساسية التي كان النظام يعتمد عليها في الحفاظ على الاستقرار وولاء الريف له.
إن الدولة تقوم بعملية تفكيك منظم وسريع لأسس الاستقرار الطبقي في مصر، وبالتالي تفتح الأبواب لمرحلة جديدة من الصراع، ولكن هذه المرحلة الجديدة ليست بالطبع صعودا مباشرا وواضحا للحركة العمالية مثلا أو لحركة فلاحيه متصاعدة ومستمرة. إن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فأولا تؤدي التحولات الاقتصادية التي وصفتها هذه الدراسة إلى تحول هام في بنية الطبقة العاملة يجب أن يؤخذ في الاعتبار عندما نتحدث عن تحولات في مستوى الصراع الطبقي، فهناك تقليص شديد في حجم العمالة في القطاع العام من خلال تصفية كاملة لبعض الوحدات والتخلص مما يسمى بالعمالة الزائدة في وحدات أخرى من أجل بيعها، وذلك من خلال المعاش المبكر، وما يتم تصفيته في واقع الأمر هو الجيل الأكثر خبرة في العمل النقابي والمطلبي، ولكنه أيضا الأكثر محافظة وارتباطا بالتنظيم النقابي الأصفر والأعلى أجرا وحوافز، أما بقية العمال الذين سيظلون في المصانع بعد بيعها فسوف يتم تكثيف استغلالهم بشكل غير مسبوق، فهم الأصغر سنا، والأقل خبرة في العمل النقابي والمطلبي، ولكنهم الأكثر غضبا والأقل تأثرا وارتباطا بالحركة النقابية الصفراء.
تخلق هذه التحولات في مصانع وشركات القطاع العام وضعا متناقضا في الحركة العمالية، فمن جانب هناك غضب متزايد في قطاع واسع من العمال ولكن نفس هذا القطاع ليس لديه الخبرة أو التواصل مع الحركة العمالية السابقة، وبالتالي فهو غير قادر حتى الآن على بلورة شكل منظم وفعال للتعبير عن هذا الغضب، ويظهر هذا الوضع المتناقض بوضوح في التحركات العمالية منذ أواخر الثمانينات، فكلها تقريبا تتسم بالابتعاد عن اللجان النقابية، وبتصاعد غاضب ومتفجر للصراع، وتكون قيادات هذه التحركات سواء كانت إضرابات أو اعتصامات قيادات شابة لا علاقة لها بالجيل القديم من النقابيين ولكن سرعان ما يتم احتواء هذه التحركات بسبب قلة الخبرة والتنظيم.
أما المحور الثاني للتحول في بنية الطبقة العاملة فهو التطور السريع للقطاع الخاص الصناعي، والذي عرضنا تفاصيله في هذا المقال، فهناك في المدن الصناعية الجديدة طبقة عاملة صناعية جديدة في تشكيلة واسعة من الصناعات الثقيلة والخفيفة من صناعة الحديد والصلب والسيارات إلى الإليكترونيات والنسيج والملابس. هذا القطاع الجديد من الطبقة العاملة المصرية يتميز بكونه غير مرتبط بالبيروقراطية النقابية الحكومية بل أن الغالبية العظمى منهم غير منتمين لأي تشكيلات نقابية، ويتميز أيضا بوجود قطاع واسع من العمال المتعلمين ليست لهم الروابط الريفية التي لعبت تاريخيا دورا معرقلا لتطور الحركة العمالية في القطاع العام.
وظروف العمل في القطاعات الصناعية الجديدة تختلف نوعيا عن القطاع العام القديم، فمعدل الاستغلال أعلى بكثير والامتيازات والحقوق تكاد تكون معدومة، وقدرة الإدارات على استيعاب المطالب العمالية محدودة جدا، فالمنافسة شديدة ولا تسمح بأي تنازل للعمال.
إن التحولات الاقتصادية التي وصفناها أعلاه تأتي في سياق دمج الاقتصاد المصري سريعا في رأسمالية عالمية تتسم بالأزمات والتقلبات العنيفة، وفي ذات الوقت تقوم الدولة البرجوازية بتفكيك كل آليات الاستيعاب الطبقي التي كان استقرارها وهيمنتها تعتمدان عليها في الماضي، وتقوم بهجوم مباشر على كافة قطاعات الجماهير من عمال وفلاحين فقراء.
وتخلق هذه الظروف تصاعدا سريعا في الغضب والاحتجاج الجماهيري، ولكن هذا الغضب والاحتجاج لم يأخذ بعد أشكالا منظمة ومتواصلة ولم يزل يأخذ شكل الانفجارات الجزئية والمتفرقة، وهذا بسبب التحولات السريعة الجارية في بنية الطبقة العاملة من جانب، وبسبب الفراغ السياسي الرهيب الذي تعاني منه الحركات الجماهيرية اليوم.
إن المرحلة التي نمر بها اليوم هي مرحلة انتقالية، لقد انتهى عهد الاستيعاب والاستقرار الطبقي، ولم تتبلور بعد مقاومة جماهيرية منظمة، وهذه المرحلة الانتقالية تحدث في ظل فراغ سياسي شديد. إن هذه الظروف تتيح فرصة تاريخية لصعود الاشتراكية، ولكن هذه الفرصة لن تظل مطروحة لفترة طويلة، فإذا لم يستفد الاشتراكيون من هذه الفرصة فسرعان ما سيملأ الفراغ بتيارات برجوازية صغيرة تحرف الحركات الجماهيرية عن المسار الاشتراكي.
‹ النظام الجديد: الإصلاح الاقتصادي فوق الهوامش ›
* نسخة للطباعة
التعليقات
علِّق
Comment: *
* Web page addresses and e-mail addresses turn into links automatically.
* Allowed HTML tags: <a> <em> <strong> <cite> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd>
* Lines and paragraphs break automatically.
More information about formatting options
* من نحن
* اتصل بنا
* مواقع مفيدة
* أنشطة
* أجندة
* الرئيسية
Search this site:
* English
o About Us
o Contact Us
o Statements
o Publications
تحولات الاقتصاد المصري.. ملاحظات أولية
* تمهيد
* النظام القديم: نشأة وتطور رأسمالية الدولة في مصر
* النظام الجديد: الإصلاح الاقتصادي
* الأزمة الاقتصادية العالمية والاقتصاد المصري
* الهوامش
Get Firefox! Fire up the Fox!
* رؤيتنا
* بيانات
* إصدارات
* جريدة الاشتراكي
* مجلة أوراق اشتراكية
* الاشتراكية الثورية المصرية
* المكتبة الاشتراكية
* عمال
* جبهات وحملات
* اليسار والحركة الشيوعية
* نصوص ووثائق
* أرشيف الأخبار
قائمتنا البريدية
كن على اتصال دائم بآخر أخبارنا
Email: *
Subscribe
الغ الاشتراك
Creative Commons License